عمنا صلاح جاهين

“عمنا صلاح جاهين” … شاعر الكاريكاتير ـ بقلم الكاتب الكبير محـــمد بغـــدادى

أعياد كتير بيبتدوا، ويفرغوا

وبيفضل العالم كده،

مكبوس، ودمه تقيل تقيل..

يا ربنا

يا اللى خلقت لنا الأيادى، للهزار، وللعمل..

إدينى قوة ألف مليون إيد..

عشان

أزغزغه!!

كانت تلك إحدى أمنيات صلاح جاهين المبكرة التى تضمنتها قصيدة “قصاقيص ورق” التى نشرت 1964 فى ديوان يحمل نفس الاسم. فبينما كانت أمنيات الشاعر الكبير “ت. إس. إليوت” أن يزعج العالم حين قال:

“أتواتينى الجرأة على إزعاج الكون..” ..كانت منتهى أحلام جاهين أن (يزغزغ) هذا العالم الكئيب ليضحك معه .. وربما كانت مئات الرسوم الكاريكاتورية التى ابدعتها ريشة الفنان صلاح جاهين .. ما هى إلا رسائل موجهة إلي هذا العالم البائس .. لعله يبتسم يوماً ما .. أو محاولة دائمة لبلوغ هذا الحلم الذى ظل يراوده طوال العمر .. وإن كانت هذه الكلمات تحمل هذا القدر المفرط من الخيال و(الفنتازيا) .. فإن رسائل جاهين لم تكن خاليه من التمرد والنقد اللاذع. والتهكم الساخر .. على كل الأوضاع التى لم يقبلها .. والتى كان يرى أن علاج العالم من الاكتئاب لن يتحقق إلا عندما يتخلص هذا العالم من خطاياه التى يرتكبها ضد البشر من ظلم وفساد وخلل فى كل نواحى الحياة .. وربما بعد أن تتحقق لجاهين كل هذه الأمنيات.. كان من الممكن أن يستلقى (العالم) على ظهره من الضحك المتواصل بعد أن يقوم صلاح جاهين بـ (زغزغته) .. بـ (ألف مليون إيد).

فصلاح جاهين لم يكن ضمن أحلامه أن (يزعج الكون) مثل (إليوت) ولكنه كان يحلم بإضحاكه فقط .. وهذه هى فلسفة جاهين التى لازمته طوال سنوات عطائه الجميل فى بداية حياته الصحفية وامتدت إلى مشروعه الشعرى المبكر فهو الذى قال:

“أنا اللى بالأمر المحال اغتوى

شفت القمر نطيت لفوق فى الهوا

طلته ماطلتوش إيه أنا يهمنى

وليه مادام بالنشوى قلبى أرتوى”

لذلك فإن تجربة صلاح جاهين فى الكاريكاتير كانت مختلفة ومتفردة .. وتمثل حالة خاصة أحدثت تياراً جديداً متميزاً بخصائص لم تكن موجودة فى المراحل التى سبقت ظهور صلاح جاهين .. ذلك لأنه كان يمتلك جسارة المبادرة .. ولكونه صاحب رؤية خاصة .. فلم يقلد أو يكرر .. أو يتأثر بمن سبقه أو من كانوا حوله ويمثلون نجوم ذلك العصر فى مجال الكاريكاتير.

وهذا يتجلى فى عدد السلاسل الكاريكاتورية التى ابتكرها جاهين وواظب على نشرها تباعاً ولفترات طويلة .. وأرسى بها تقاليد كاريكاتورية جديدة ومستحدثة .. وعميقة المغزي .. خفيفة الظل .. ذات دلالات أسهمت فى مواكبة التحولات الاجتماعية الكبرى التى كانت قد طرأت على المجتمع المصرى بعد ثورة 1952 .. ولعل أهم هذه السلاسل:

قيس وليلي – نادي العراة – العيادة النفسية – قهوة النشاط – وجع دماغ دولى – ضحكات مكتبية – دواويين الحكومة – الفهامة – ” صباح الخير أيها …..”

فإذا تحدثنا عن السلسلة الأخيرة كنموذج وهى ” صباح الخير أيها….” فسنكتشف على الفور إلي أى مدى كان جاهين يمتلك عنصر المبادرة فى ابتكار أدوات تعبيره .. ففي هذه السلسلة التى كانت تحتل صفحتى وسط المجلة (الدوبل بلغة الصحافة) .. وكان جاهين يختار بحرية مطلقة موضوعاً واحداً حياً وجريئاً وله علاقة بالواقع – آنذاك – ويضع على صفحتين متقابلتين من صفحات ” صباح الخير ” ما بين ثمانية أو ستة رسوم كاريكاتورية مختلفة المساحات .. ما بين المستديرة والمربعة والمستطيلة .. وكلها تتحدث عن الموضوع الذى اختراه .. وبين هذه الرسوم كان دائماً ما يضع فى وسطها عنوانين “حوار جرئ” .. وهذا زجل” .. وكان الحوار عبارة عن صورة كاريكاتورية مكتوبة بعناية .. على هيئة حوار متبادل بين شخصيات وهمية ولكن لها علاقة ودلالة مرتبطة بموضوع الصفحتين .. وكان هذا الحوار له مغزى ويمثل إضافة لرؤيته الكاريكاتورية التى تتضمنها الصفحتان .. أما “الزجل” فكان عبارة عن قطعة بديعة من الشعر العامى مكثفة للغاية ذات بناء درامي محكم ومعبرة عن وجهة نظر شديدة الجرأة ومرتبطة أيضاً بالموضوع الأساسى لصفحتى الكاريكاتير .. وذات طابع هزلى كاريكاتورى.

ومن هنا نستطيع أن نؤكد أنه بانضمام صلاح جاهين إلي مدرسة روز اليوسف الصحفية فى بداية الخمسينيات .. وخصوصاً بعد ظهور مجلة ” صباح الخير ” فى 12 يناير 1956 .. استطاع جاهين أن يحدث انقلاباً حقيقياً غير ملامح حركة الكاريكاتير المصرى .. ودفعها فى اتجاه تحديثى جديد .. وسرعان ما تبلور على ساحة الصحافة اتجاه عام لهذه المدرسة الثورية المتمردة والمشاكسة .. وانضم إلي هذا التيار الجديد على فترات متقاربة عدد من خريجى وطلبة كلية الفنون الجملية والهواة والمحترفين .. وظهرت رسومهم الكاريكاتورية على صفحات روز اليوسف و” صباح الخير ” .. وجريدة الاخبار .. والجمهورية .. والمساء .. وبعض إصدارات دار الهلال .. وكانت أهم هذه الأسماء التى ظهرت آنذاك:

رجائي ونيس .. وأحمد إبراهيم حجازى (حجازى) .. وبهجت عثمان .. وإيهاب شاكر .. وإسماعيل دياب .. ومصطفي حسين .. وحسن حاكم وناجى كامل .. وجاء الرعيل الثاني بعد فترة قليلة فظهرت خطوط جديدة ومتميزة ومختلفة لصلاح الليثى .. ومحى الدين اللباد .. وشريف عليش .. ورؤوف عياد.. وجمعة فرحات .. ومحسن جابر .. و رمسيس .. و محمد حاكم .. وظهر ــ آنذاك ــ خارج روز اليوسف : مصطفى حسين .. وحسن حاكم .. نبيل تارج .. وتاج .. وعفت .. وغيرهم.